حوار الثقافات

يناير 14, 2021

 فى كل أعمال الفن العظيمة على مر التاريخ ، يمكن العثورعلى تطبيق لفكرة الالتقاء بين أساليب فنية وأنماط جمالية مختلفة مجلوبة من تقاليد ثقافية متنوعة. وهناك مثال من تراث الفن المصرى القديم يرجع إلى عصر الأسرة 18(طيبة ،البرالغربى، الأسرة 18، 1350قبل الميلاد،محفوظة بالمتحف البريطانى) يشهد على امتزاج تقاليد مختلفة في إطار جمالى جديد، ذلك المثال هو جدارية " الوليمة" في ضريح النبيل "نب أمون" حيث مزج الفنان في تنفيذها الأساليب الفنية التي تناولها الفنانون المصريون الذين سبقوة في صياغة الهيئة الاصطلاحية لشكل الجسم الإنسانى، مع بعض التغييرات الطفيفة في تمثيل الأشكال في الفضاء، وبهذه الطريقة جمع بين أساليب فنية من عصور فرعونية مختلفة في إطار تقليد متواصل. "وبالرغم من إنتماء الذوق الجمالى لبيئة ثقافية واجتماعية معينة، فإنه من الممكن تقديرالقيم الشكلية والخيالية الجميلة، في أساليب فنية مختلفة في أنماطها الثقافية. وفى العصرالحديث يستمتع الناس بجمال الفن الفرعونى، مثلما يعجبهم الفن الإغريقى أو الفن الزنجى."

كذلك الفنان الفرنسى الحديث"بول جوجان" ( P.Gauguin (1848-1903 عندما رسم لوحة "بذور أروى " (1892) استلهم التقاليد الفنية التي نفذت بها جدارية "نب آمون" التي شاهد جزءا منها في المتحف البريطانى، فجاء رسمه للوحته مختلفا عن تقاليدالفن الفرنسى الشائعة في القرن التاسع عشر. فهل افتقد رسم "جوجان" أصالته،على اعتبار أنه نسخة منقولة عن الرسم المصرى القديم ؟ أم أن ما أضافه الفنان بخياله يكفى لمنح عمله الفنى أصالته ؟. لقد كانت لوحة " بذور أروى " بكل المقاييس تمثل أسلوباً غريباً عن أساليب فنانى باريس في ذلك العصر، فما الذي أراده "جوجان" بإقتباساته من الفن المصرى؟. من المؤكد أنه أراد أن يعلن عن موقفه المتعارض مع المدنية الحديثة التي عانى من طغيان ماديتها في باريس، ومع الثقافة الغربية التي كادت أن تصل إلى طريق مسدود أمام أي تجديد حيوى، وأمام أي رؤية نقدية / إبداعية، بسبب القيود التي تفرضها الأكاديمية، والتى تحد من "حرية التعبير"عما يشعر به الفنان تجاه العالم الغارق في ماديته. وبذلك بدت لوحة "جوجان" مثل "فكرة صورية" تعكس حالة التناقض بين ثقافتين(البولينيزية والفرنسية). وقصد الفنان برسم الفتاة التاهيتية التي تدعى "تهورا" في هيئة الإلهة البولينيزية، جالسة على قطعة من القماش منقوش بزخارف من الأبيض والأزرق. لقد عثر الفنان على ما يناسب التعبيرعن ماضى الحياة فى" تاهيتى" كمنطقة من عالم ما قبل الحداثة، تغلب عليها الأجواء الأسطورية والخيالية، وتصلح لقضاء أوقات الفراغ، تمثلها الألوان الزاهية والمسطحة وغير الواقعية، وكأنها السبيل لإعطاء فكرة "الصفاء" و"الطهارة " صورة وجسداً ، مما لم يجد الفنان له صورة في المدينة الحديثة التى عاش فيها (باريس) لذا بحث عن فكرته في أماكن أخرى. وحاول"جوجان" إعادة اكتشاف فنون ثقافات أخرى "غير أوروبية" وبطريقته أعاد اكتشاف رسوم ضريح "نب أمون" فعثرعلى قيمة جمال الخطوط المحيطية الثاقبة، ذات الانحناءات الإيقاعية وهي تؤطر الأشكال، واستعارها لتشكل خاصية جوهرية في أسلوبه التوليفى الجديد. إذ كان ذلك الخط المحيطى حلاً لإنجازاللوحة الفنية كوحدة جمالية مترابطة ومشرقة، كما توصل إلى كيفية الاحتفال بالشعور بـ «النقاء» في أجواء ساحرة. وفى الحقيقة أن كل أعمال الفن مرتبطة ببعضها. وبسبب الميراث الثقافى المشترك تستفيد أعمال الفن من الأعمال الفنية التي سبقتها أوالمعاصرة لها، من حيث أساليب الأداء واالموضوعات والأفكار، سواء بالاقتباس أو بالتحاور. وهناك كذلك "المحاكاة الساخرة" مما يعد من أمثلة ارتباط أعمال الفن بعضها ببعض. ففى العادة يستخدم الفنانون أعمال الفن من التراث القومى والعالمى، كمصدر لأعمالهم الفنية،على الرغم من إجرائهم العديد من التعديلات، إلا أن ارتباطية أعمال الفن لا تتضح في العديد من الحالات، بل لا يعرف الفنانون أحياناً أنهم يفعلون ذلك أيضاً. وارتباط الفنون ليس ظاهرة جديدة، بل هو متأصل في الأسلوب الحوارى الذي يتصل به الناس مع بعضهم ، حيث ما نقوله يعتمد على ما يقوله الآخرون. وفى نفس الوقت الذي يتحاور فيه عمل فنى مع أعمال فنية أخرى، يعد إبداعاً أصيلاً.


 مصدر هذه الصفحة  





مشاركة

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة لــ Forex web